تشغيل الوضع الليلي
تأملات في آية
منذ شهر عدد المشاهدات : 97
تأملات في آية
بقلم: قبس علي
قال (تعالى): "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"(البقرة٣٠)
عندَ النظرِ والتأمُّلِ في الآيةِ الكريمةِ يتبادرُ إلى الذهنِ عدّةُ أسئلةٍ منها:
أولًا: ما سعةُ القُدرةِ الشيطانيةِ في قِبالِ القُدرةِ الإلهيةِ الحقّة؟
ثانيًا: من له حقّ تنصيبِ الخليفةِ في الأرض؟
ثالثًا: هل الإنسانُ مخلوقٌ سفّاحٌ وسفّاكُ للدماء؟
وللجوابِ نقول:
أولًا: الشيطانُ مخلوقٌ كما غيره من المخلوقات فليس له أيّ قدرةٍ قبالَ القدرةِ الإلهية، فهو مخلوقٌ للهِ (تعالى)، إلا أنّه يتميّزُ بالشرِّ والحقدِ والبغضِ لبني آدم، وهو لا يُمكِنُه الخلقُ والإيجاد، فلو اجتمعتْ شياطينُ الإنسِ والجِنِّ على أنْ يدبّوا الروحَ في ساق نباتٍ ميّتٍ وبالاستعانةِ بوسائلِ العلمِ الحديثةِ والفلسفةِ لما تمكّنوا من ذلك؛ لأنّ ذلك من مُختصّاتِ القُدرةِ الإلهية فقط، فاللهُ وحده القادرُ على أنْ يصيّرَ المادةَ من صورةٍ إلى أخرى ويبثُّ فيها الروحَ ويوجدها من العدمِ كيفَ يشاءُ وأنّى يشاءُ وإلى متى يشاء.
أمّا الشيطانُ فله قُدرةٌ ناريةٌ من شأنِها الإغواءُ والإضلالُ والتمويهُ ولكن لمن سلّم نفسَه له، فاللهُ (جلّ علاه) أعطى الإنسانَ قُدرةَ الاختيارِ والتمييزِ فهو مخلوقٌ مُخيّرٌ لا مُسيّر، قال (تعالى): "إنا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا"(البلد ١٠).
فاختيارُ طريقِ الحقِّ والباطلِ موكولٌ إلى الإنسانِ نفسه، فسيرُه في طريقِ الأنبياءِ والأولياءِ والصالحين يُصيّره وجودًا نورانيًّا ويُنيله الدرجاتِ العُلا في هذه النشأةِ وما بعدها.
ومن ذلك نفهمُ أنَّ قُدرةَ اللهِ فوقَ قُدرةِ الشيطان؛ لكونه مخلوقًا له، وأنَّ شيطانيةَ الإنسانِ تحصلُ بإرادته واختياره.
ثانيًا: نسبَ اللهُ (سبحانه وتعالى) في الآيةِ الكريمةِ حقَّ جعلِ وتنصيبِ الخليفةِ والإمامةِ لنفسه "إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفة"، وغيرها من الآياتِ، فقالَ في خليلِه إبراهيم (عليه السلام): "وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمّهن فقال إنّي جاعلك للناس إمامًا"(البقرة١٢٤)، وفي تنصيبِ داوود (عليه السلام): "يا داود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض"(ص 26)
وهذه الآياتُ المُباركاتُ تُعطي معنى أنّه ليس للناسِ حقّ التدخُّلِ في شؤونِ اللهِ (تعالى) لعدمِ معرفتهم بمصالحهم، فكيفَ بمصالحِ العالمِ بأسره.
وهذا الحقُّ أيضًا لا يشملُ الملائكةَ إذ جاءَ في سياقِ سؤالهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، فكانَ الجواب: "إنّي أعلمُ ما لا تعلمون" فعِلمُ اللهِ (سبحانه) فوقَ علمِ الملائكة، بل لا يُدانيه ولا يُقاسُ بعلمه علمٌ "وفوقَ كُلِّ ذي علمٍ عليم"(يوسف ٧٦)
ثالثًا: وحيثُ إنّ في كُلِّ إنسانٍ جهتين: جهةً نوريةً وتتمثّلُ في العقلِ الذي هو صفةٌ إلهيةٌ ومن جنودها العفةُّ والصبرُ والحلمُ و، وجهةً ناريةً وهي صفةٌ شيطانيةٌ تتمثّلُ في الفسادِ وسفكِ الدماءِ وغيرها من الصفاتِ الخبيثة.
والملائكةُ إنّما نظروا إلى الجهةِ الثانيةِ التي هي من آثارِ كونِ نفسِه الشيطانية، أمّا الجهةُ النوريةُ فهي تعصمُ الإنسانَ من الانحرافاتِ والمعاصي.
وخيرُ من مثّلَ الجهةَ النوريّةَ في الإنسانِ نبيّنا محمدٌ (صلى الله عليه وآله) وآله الكرام "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ".
إذن نرجعُ إلى نقطةٍ مهمةٍ وهي سلوكُ أيّ جهةٍ من الجهتين بيدِ الإنسان نفسه "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"(الشمس ٩ و ١٠)
وإن استغنى مثلُ هذا الإنسانِ عن سلوكِ الطريقِ المُستقيمِ فيكفي امتثالُه من قبلِ الأنبياء والصالحين.
اخترنا لكم

ماذا لو؟(112)
بقلم: أُمّ قنوت إنصاف الناس من النفس ماذا لو سألك الإمامُ (عجّل الله فرجه): هل أنصفتَ الناسَ من نفسِك؛ فأحببتَ لهم ما تُحِبُّ لها، وأبغضتَ لهم ما تُبغِضُ لها؟ .......... "أحبِبْ أخاك المُسلمَ وأحبِبْ له ما تُحِبُّ لنفسِك، وأكرهْ له ما تكرهُ لنفسك"(1) ما أسهلَ ترديدُ هذه الروايةِ على الألسُنِ وادّعاءُ حُبِّ الخيرِ للآخرين، وما أصعبَ التطبيق على أرضِ الواقعِ والتنفيذ! فكيفَ لقلوبٍ مُلئَتْ بحُبِّ الدُنيا وتشبّعتْ بروحِ المُنافسةِ على ملذّاتِها أنْ ترى غيرَها يستمتعُ بما أحبّتْ؟ وكيفَ لأرواحٍ تشبّعتْ من ظلمِ الآخرين والإساءةِ إليهم أنْ تصفحَ وترتقيَ لتُحِبَّ الخيرَ لمن آذاها؟ فنحنُ البشرُ لا نعيشُ في المدينةِ الفاضلة، ولا ننتمي إلى عالمِ الملائكة؛ فهل نكترثُ مثلًا لشجرةٍ معطاءةٍ منَّ اللهُ (سبحانه وتعالى) عليها بالصِحّةِ والثمرِ وزيّنها بالجمالِ ويُشارُ إليها بعينِ الإعجابِ والحُبّ؟ بالطبعِ لا.. فلماذا إذن تغلي قلوبُنا وتتقلّبُ على نارِ المرارةِ حينَ يرزقُ اللهُ (تعالى) أقرانَنا رزقًا كرزقِها؟! ذلك لأنَّ الشجرةَ لا تُمثِّلُ أدنى تهديدٍ لمصالحنا، على حين نتوهّمُ أنَّ نجاحَ غيرِنا مثلًا أشبهُ بزلزالٍ يُهدِّدُ عرشَنا الوهمي بالسقوط، هذا فضلًا عن عِللِ القلوبِ التي لا تُحِبُّ الخيرَ للآخرين وكأنّ رزقَ الغيرِ قد يُنقِصُ من رزقنا! فكيفَ لنا إذنْ أنْ نُطبِّقَ ما أمرَنا به أئمتُنا (عليهم السلام)؟ قد تكونُ إحدى الأمور المُساعدةِ على ذلك عن طريقِ الإجابةِ عن تساؤلاتٍ تبدأ بـ"لماذا"، كأمثال: لماذا لا أُحِبُّ أنْ أرى فلانًا سعيدًا، على حين أُحِبُّ ذلك لغيره؟ لماذا أشعرُ بالفشلِ عندما يكونُ غيري ناجحًا في عمله؟ لماذا تمنّيتُ أنْ يمُرَّ فلانٌ بنفسِ الظرفِ القاسي الذي مررتُ به؟ أسئلةٌ من هذا النوعِ نستطيعُ عن طريقِها أنْ نتعرّفَ على القصورِ الداخلي الذي نُعاني منه، ومتى ما تعرّفنا عليه نستطيعُ بعدَها أنْ نُدرِّبَ أنفسَنا على التغييرِ لنُنصِفَ الناسَ من أنفسِنا. تذكّرْ: أنَّ القلوبَ القذرةَ لا تجذبُ إليها إلّا من يهوى القذارة. تذكّرْ: أنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) طهّرَ أهلَ البيتِ (عليهم السلام) من الرجس، فلا تتصوّرْ أنّك ستكونُ بقُربِ الإمامِ الحُجّةِ بن الحسن (عجّل الله فرجه) يومًا وأنت لم تُطهّرْ قلبَك من الضغائن، لذا انشغلْ بنفسِك وركِّزْ على ما يُقوّيها، وأنصِفِ الناسَ من لسانِك وقلبِك، وتمنَّ لهم الخيرَ كما تتمنّاه لنفسك، عندها ستكونُ أهلًا لقُربِ المولى صاحبِ الزمان (عجّل الله فرجه). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بحار الأنوار، الجزء ٧١.
اخرى
من وحي الاخلاق
من وحيّ الأخلاق(36) بقلم: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي القدوةُ الصالحةُ والأسوةُ الحسنة لا شكَّ أنَّ أسمىٰ هدفٍ للقرآنِ الكريمِ وللدِّين القويم، هو بناءُ وتكاملُ الإنسانِ إلىٰ أعلىٰ حدٍّ مُمكنٍ له، وفي سبيلِ ذلك جعلَ الدِّينُ العديدَ من العواملِ التي تُساعدُ الإنسانَ علىٰ بلوغِ أعلىٰ درجةٍ من التكامُل، منها: أنَّه جعلَ له عقلًا يُميِّزُ الحسنَ من القبيح، وأبقىٰ له دستورًا ثابتًا يُعالجُ جميعَ مشاكلِ ومُستحدثاتِ الحياة، مُتمثِّلًا ذلك الدستور بالثقلين: كتابِ اللهِ (تبارك وتعالىٰ)، وعترةِ النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله). هذا أوَّلًا. وثانيًا: أنَّ من طبيعةِ الإنسانِ أنَّه يتأثَّرُ بمن يعدّهم القدوةَ له، في أيِّ جانبٍ من جوانبِ الحياة، وهذا أمرٌ نجدُه فطريًا عند الأطفال، حيثُ نجدُهم يُحاولون تقليدَ آبائهم في كُلِّ ما يصدرُ منهم، ربَّما ليتقرَّبوا منهم، وربَّما لأنَّهم يعدّون آباءهم النموذجَ الأروعَ في حياتهم، وربَّما لأنَّ طبيعةَ الإنسانِ تدعوهم إلىٰ ذلك. علىٰ كُلِّ حالٍ، فإنَّ هذا أمرٌ نجده طبيعيًا جدًّا، وهو في الحقيقةِ من أساليبِ التربيةِ العمليةِ المُهمَّة. إنَّ الحاجةَ إلىٰ القدوةِ الحسنةِ أمرٌ وجداني، يجدُه الإنسانُ في قرارةِ نفسه، وليس هذا خاصًّا بالمسائلِ الروحية فقط، بل هو حتَّىٰ في المسائلِ المادّيةِ كما هو واضحٌ عند أدنىٰ تأمُّل، ولكنَّ الحاجةَ إلىٰ القدوةِ والأُسوةِ في المسائلِ الأخلاقيةِ والروحيةِ تكونُ أشدّ وآكد، لأنَّ غالبيةَ المسائلِ الأخلاقيةِ تكونُ مُخالفةً للأهواءِ والشهواتِ النفسانية، وتكثرُ فيها الشطحاتُ والأخطاء، فنحتاجُ -والحالُ هذه- إلىٰ قدوةٍ حسنة، يرسُمُ لنا الطريقَ الصحيحَ للأخلاقِ الحسنة. وفي هذا المجالِ، يُعطينا القرآنُ الكريمُ القدوةَ الحسنة، مُتمثِّلةً بأفضلِ أهلِ الأرضِ، وهم الأنبياء والمُرسَلون، وعلىٰ رأسهم نبيُّ الأخلاقِ الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله). قال (تعالىٰ): (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) وقال (تعالىٰ): (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) وفي ضمن كلامهِ (جلَّ وعلا) عن بعضِ الأنبياءِ والمُرسَلين، يقول (جلَّ وعلا): (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰ اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرىٰ لِلْعالَمِين) إنَّ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) هو قدوةٌ لنا ولجميعِ طبقاتِ المُجتمعاتِ الإنسانية، وعلىٰ اختلافِ مُستوياتها، وفي جميعِ جوانبِ الحياة، وأحاديثه وأفعاله زاخرةٌ بالقوانين الأخلاقية. فمن جانبِ العبادةِ كانَ أعبدَ الناس، فقد رويَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ عَائِشَةَ لَيْلَتَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ تُتْعِبُ نَفْسَكَ وقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): يَا عَائِشَةُ، ألَا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً. قَالَ وكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُومُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْه، فَأَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَه وتَعَالَى (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ) » ومع هذا لم يكنْ ليتركَ الدُنيا مُطلقًا، بل كانَ يأكلُ ويشـربُ ويُحِبُّ الطيبَ ويقاربُ النساء، والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ مشهورة، وكانَ (صلى الله عليه وآله) أشدَّ الناسِ حياءً، فقد كانَ أحيىٰ من العذراءِ في خدرها، وكانَ (صلى الله عليه وآله) لا يُسألُ شيئًا إلَّا أعطاه، وكانَ (صلى الله عليه وآله) مُتواضعًا بحيث كانَ يأكلُ أكلَ العبد، ويجلسُ جلسةَ العبد، وكانَ يأكلُ علىٰ الحضيض، وينامُ علىٰ الحضيض، وكانَ (صلى الله عليه وآله) يحلبُ المعزَ بيده، ويلبسُ الصوف، ويُسلِّمُ علىٰ الصبيان (لتكون سُنَّة من بعده)، وكانَ إلىٰ جانبِ ذلك أشجعَ الناس، قالَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام): «لقد رأيتُني يومَ بدر، ونحنُ نلوذُ بالنبيِّ (صلى الله عليه وآله)، وهو أقربُنا إلىٰ العدوِّ، وكانَ من أشدِّ الناسِ يومئذٍ بأسًا» ، وقال (عليه السلام): «كُنّا إذا احمرَّ البأسُ ولقيَ القومُ القومَ، اتَّقينا برسولِ الله، فما يكونُ أحدٌ أقرب إلىٰ العدوِّ منه (صلى الله عليه وآله) » وكانَ (صلى الله عليه وآله) خيرَ الناسِ بأهله، وأرحمَهم بهم. إنَّ الكلامَ عن رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) وصفاتِه لا ينتهي، والقلمُ يقفُ عاجزًا خجلًا من التقصيرِ بحقِّ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، ويكلُّ وييأسُ من بلوغِ حقيقةِ صفاته (صلى الله عليه وآله) عندما يسمعُ القرآنَ الكريمَ مُلعلعًا علىٰ الدهر ويقول: (وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) وليكُنْ معلومًا: أنَّه كما أنَّ القدوةَ الحسنةَ تدفعُ بالمُقتدي بها نحوَ الفضائل، كذلك إذا كانتِ القدوةُ سيِّئة، فإنَّها تسحبُ الفردُ إلىٰ الرذائل. وهذا يعني التالي: أوَّلًا: أنَّ أهمّيةَ مسألةِ اختيارِ القدوةِ والأُسوةِ تقتضـي أنْ يكونَ البحثُ دقيقًا عمَّن يُرادُ الاقتداءُ به، فلا يخدعنَّ الفردُ نفسه. ثانيًا: علينا أنْ نكونَ عونًا لأولادنا في اختيارِهم للقدوةِ الحسنة، الأمرُ الذي يبدأ بنا نحن، بمعنىٰ أنْ نعملَ علىٰ أنْ نكونَ نِعْمَ القدوةِ لهم؛ لأنَّنا أقربُ الناس إليهم. ثالثًا: أنَّ الفردَ إذا تسنَّمَ منصبًا اجتماعيًا مُعيَّنًا، فإنَّه في الوقتِ الذي يعدّه تشريفًا له، هو يُلقي عليه مسؤوليةً عظيمةً بأنْ يكونَ علىٰ قدرها، ولذلك كانَ علىٰ نساءِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) مسؤوليةٌ عظيمة؛ لاقترابهنَّ من رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، قال (تعالىٰ): (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَىٰ اللهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقًا كَرِيمًا) ومن هُنا، فقدِ افترضَ الأئمَّةُ (عليهم السلام) علىٰ شيعتِهم أنْ يكونوا الأفضلَ في كُلِّ شيء، وأنْ يكونوا قدواتٍ لغيرهم، خصوصًا من أبناءِ المذاهبِ الأُخرىٰ، حتَّىٰ ينقلوا صورةً مشـرفةً عن علاقتهم بأهلِ البيت (عليهم السلام)، وهي مسؤوليةٌ عظيمةٌ مُلقاةٌ علىٰ عاتقِ كُلِّ من يدَّعي التشيُّعَ لهم (عليهم السلام). رويَ أنَّه قالَ الشقران مولىٰ رسول الله (صلى الله عليه وآله): خرجَ العطاءُ أيّامَ أبي جعفر وما لي شفيع، فبقيتُ علىٰ البابِ مُتحيِّرًا، وإذا أنا بجعفرٍ الصادق، فقُمتُ إليه، فقلت له: جعلني اللهُ فداك، أنا مولاك الشقران، فرحَّبَ بي وذكرتُ له حاجتي، فنزلَ ودخلَ وخرجَ وأعطاني من كُمِّه فصبَّه في كُمّي، ثمّ قال: «يا شقران، إنَّ الحسنَ من كُلِّ أحدٍ حسن، وإنَّه منك أحسن، لمكانك منّا، وإنَّ القبيحَ من كُلِّ أحدٍ قبيحٌ، وإنَّه منك أقبح»، وعظه علىٰ جهةِ التعريض لأنَّه كانَ يشرب. وعَنْ أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): اقْرَأْ عَلَى مَنْ تَرَى أَنَّه يُطِيعُنِي مِنْهُمْ ويَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ، وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، والِاجْتِهَادِ للهِ، وصِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ وطُولِ السُّجُودِ وحُسْنِ الْجِوَارِ، فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله)، أَدُّوا الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا بَرّاً أَوْ فَاجِراً، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ والْمِخْيَطِ، صِلُوا عَشَائِرَكُمْ واشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ وعُودُوا مَرْضَاهُمْ وأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِه وصَدَقَ الْحَدِيثَ وأَدَّى الأَمَانَةَ وحَسُنَ خُلُقُه مَعَ النَّاسِ قِيلَ: هَذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ ويَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْه السُّرُورُ، وقِيلَ: هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، وإِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُه وعَارُه،وقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، فواللهِ لَحَدَّثَنِي أَبِي (عليه السلام): أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَيَكُونُ زَيْنَهَا آدَاهُمْ لِلأَمَانَةِ، وأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ وأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْه وَصَايَاهُمْ ووَدَائِعُهُمْ، تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْه فَتَقُولُ: مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ، إِنَّه لآَدَانَا لِلأَمَانَةِ وأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ.»
اخرى
من اسئلتكم مجاملة أم نفاق؟!
بقلم: فاطمة حيدر يقول السائل: كيف يمكن التمييز بين المجاملة والنفاق؟ هل يجب علي أن أُنافق بعض الأشخاص لتجنب المشاكل، وهل فيها حرمه؟ وإذا أيقنت كره أحد لي فهل أجامله، أم أظهر له ذلك! الجواب: نوضح الفرق بمشهدين: امرأة عجوز، لنقُل إنها قريبتك، قمت بزيارتها، فبدأت تقص لك الحكايات عن ماضيها، وحكايات عن أولادها وربما كررت لك بعض المشاهد وأطالت في الحديث! أنت تحبها وتعطف عليها وتحترمها، ستقول لها: سلمتِ يا حاجة، أيامك كانت حافلة، وتبتسم في وجهها، رغم أنك قد تكون شعرت ببعض الملل أو ضيق الوقت! هذه هي المجاملة، فيها حب واحترام وتطييب للخاطر، قد لا تكون واقعية ١٠٠% ، لكنها مشاعر طيبة وصادقة بمحبتها بلا شك. المشهد الآخر: استمعت لحديثها، وابتسمت وضحكت معها، تريد رضاها! تريد رضاها كي تحصل على شيء من أملاكها! وعندما تغادرها، إذا بك تذمها وتغتابها مع نفسك أو أمام الآخرين: يا لها من عجوز مملة؟! لا تحترم وقتي، وما علاقتي بقصصها تلك؟! كُنتَ تُظهر لها الود فقط لمصلحة تريدها! بعد فترة، قامت هذه العجوز بهبتك جزءًا من أملاكها. هكذا أصبحت العجوز لا تهمك، حصلتَ على حاجتك منها. تحاول محادثتك فتخبرها: يا حاجة أنا مشغول، ولدي صداع! نَعرف النفاق هكذا، أن نيته ليست خيرًا! الغاية منه هي مصلحة شخصية بشكل أو بآخر، فهو يحدثها بخير وبغيابها يُخرج حقيقته... بمجرد انتهاء مصلحته، عاد لوجهه الحقيقي! وأحيانًا المبالغة تصاحب النفاق. ربما يمكننا القول: إنّ للنفاق وجهين مختلفين تمامًا، أما المجاملة فهي وجه واحد، لكنه يبتسم للناس رغم حالتهِ الأنية! -في الباطل لا نجامل، لكننا ننصح بالتي هي أحسن... يمكننا أن نستشكل على الآخرين في معاصيهم، بنفسٍ طيبةٍ وكلمة حسنة! والآن سؤال آخر، إذا أيقن الشخص بأن هناك شخصًا يكرهه كيف يتعامل معه؟ هل يجامله بالتعامل أو عليه إظهار الحقيقة بتصرفاته؟ إذا أيقن الشخص بأن هناك شخصًا يكرهه كيف يتعامل معه، هل يجامله بالتعامل أم عليه إظهار الحقيقة بتصرفاته؟ -اذا أيقنّا كره أحد لنا، هذا لن يغير فينا شيئاً من حيث تعاملنا! فتعاملنا وأخلاقنا هي أخلاق أهل البيت (عليهم السلام). إذا غيّرنا سلوكنا وفق محبة أو كره الآخرين لنا، إذن أصبحوا هم من يتحكم بسلوكياتنا! إن كان الشخص يكرهنا، تبقى ردود فعلنا مليئة بالإحسان... ربما لا نستطيع مجاملته لأن المجاملة تصدر عن شعور من المحبة.. إلّا أننا نستطيع البقاء كما نحن، وكما يريدنا الله. نجادل بالتي هي أحسن، نعاشر الناس بالمعروف ولو كرهناهم، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر... وحتى، نستطيع أن نحبه! وهذه دعوة لنحب خلق الله، نحبهم لأنهم صنع الله. ومن يُخطئ نحزن له وندعو له بالهداية والمغفرة. والحمد لله رب العالمين.
القضايا الاجتماعيةالتعليقات
يتصدر الان
بين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىلا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىأقوال كاذبة النسبة
انتشرت بين الناس في برامج التواصل الاجتماعي والمنتديات والمواقع الالكترونية الكثير من المقولات المنسوبة للإمام علي بن ابي طالب( عليه السلام )، وهي روايات كاذبة ومنسوبة ولا يوجد لها دلالة في الكتب الحديثية. ومنها هذه المقولة: - [يقول علي بن ابي طالب عليه السلام : كنت اطلب الشيء من الله ... فإن اعطاني اياه كنت افرح مره واحده . وإن لم يعطيني اياه كنت افرح عشر مرات . لأن الاولي هي اختياري ، أما الثانية هي اختيار الله عز وجل ] هذه المقولة كذب لا أصل لها ولا دلالة. فلم أجد لها سنداً في الكتب الحديثية أبداً. اما من حيث المعنى فهي مخالفة للقرآن وللاحاديث النبوية وروايات اهل البيت عليهم السلام، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالدعاء وضمن الاستجابة حتى ولو بعد حين. قال تعالى في محكم كتابه العزيز : (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ). - روي عن رسول الله( صلى الله عليه وآله) أنه قال: «افزعوا إلى الله في حوائجكم ، والجأوا إليه في ملماتكم ، وتضرعوا إليه ، وادعوه؛ فإن الدعاء مخ العبادة وما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب؛ فإما أن يعجله له في الدنيا ، أو يؤجل له في الآخرة ، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا؛ ما لم يدع بماثم» (١) . تأملوا : (افزعوا إلى الله في حوائجكم) ، (والجأوا إليه في ملماتكم) ، (وتضرعوا إليه). إنما يستعين الانسان على قضاء حوائجه الدنيوية والاخروية بالدعاء والابتهال والتضرع الى الله سبحانه وتعالى، فإذا كان المؤمن يفرح بعدم اعطائه حاجته فلماذا يفزع وأي مؤمن علي بن ابي طالب( عليه السلام )الذي لا يطلب حاجة للدنيا . - عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : «اكثروا من أن تدعو الله ، فإن الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه ، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة» (٢). إن الله يشتاق إلى دعاء عبده ، فإذا أقبل العبد بالدعاء على الله أحبه الله ، وإذا اعرض العبد عن الله كرهه الله. عن معاوية بن وهب عن ابي عبدالله الصادق عليه السلام قال : «يا معاوية ، من اعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة : من اعطي الدعاء اعطي الاجابة ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة ، ومن اعطي التوكل اعطي الكفاية ؛ فان الله تعالي يقول في كتابه : (ومن يتوكل علي الله فهو حسبه). ويقول : (لئن شكرتم لأزيدنكم). ويقول : (ادعوني استجب لكم)(٣). إن بين الدعاء والاستجابة علاقة متبادلة ، وأي علاقة أفضل من أن يقبل العبد على ربه بالحاجة والطلب والسؤال ، ويقبل الله تعالى على عبده بالإجابة ويخصه بها؟ قد يؤجل الله تعالى إجابة دعاء عبده المؤمن ليطول وقوفه بين يديه، ويطول إقباله عليه وتضرعه إليه ... فإن الله يحب أن يسمع تضرع عبده ، ويشتاق إلى دعائه ومناجاته. وفي الختام نقول: الأسلوب لا يخلو من الركاكة ، و من يعرف بلاغة وفصاحة الإمام علي بن ابي طالب( عليه السلام ) يعرف أنه لم يقل هذا الكلام. فلا يجوز نشر مثل هذه المقولات المنسوبة بين المسلمين إلا لبيان أنها كلام مكذوب وموضوع ومنسوب للإمام ( عليه السلام ). لأن ديننا ومذهبنا علمنا أن نتحقق ونبحث في صحة وسند الرواية قبل نقلها . ---------------------------- (١)- بحار الانوار ٩٣ : ٢. ٣. (٢)- وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٦. (٣)-خصال الصدوق ١ : ٥٠ ، المحاسن للبرقي ٣ ، الكافي : ٦ في ١١ : ٤ من جهاد النفس. حنان الزيرجاوي ينشر 3
اخرى